لا تريد السلطة في السعودية لشعبها أن يتطلع إلى الأفق ولا أن ينظر إلى الشعوب المتحررة من حوله، وهي تصادر الحريات في الداخل وفي الخارج وتغيب الكلمة وتغتال الأحلام بالسجن والرصاص. وتلفق التهم ضد كل من يرفع صوته عالياً مطالباً بالحرية والكرامة.
تمكنت وزارة الداخلية في السعودية من أن تخفي قضية المطالبين بالإصلاح والتغيير بإشغال شعبها بشخوص القضية ومذاهبهم، بدلاً من أن تسعى لتلبية تلك المطالب أو أن تطرحها على طاولة النقاش،وكانت تهمة الخيانة والعمالة حاضرة وسهلة يسيرة وخصوصاً ضد طائفة الشيعة في المنطقة الشرقية والمعزولين قهراً ثقافياً واجتماعياً عن بقية أبناء وطنهم ومجتمعهم.وصدّق أغلب أطياف المجتمع تلك التهم والتلفيقات دونما أدنى تحقق،ذلك لأن بعض فئات الشعب السعودي مأزوم بجرحه الطائفي الذي أسسته نظرة الدولة الأحادية للمجتمع، لقد أُسقط المطالبون بالحرية والعدالة في بئر الخيانة والعمالة فضاعت نتيجة لذلك أصل القضية التي كانوا يحملونها معهم.
في حين كان الأجدر في ظل الغيمة السوداء التي اجتاحت شخوص الحراك المطلبي في القطيف أن تُطرح أسئلة عقلانية وأن يتم الإجابة عليها بكل موضوعية بدلاً من الذهاب بتلك الإتهامات إلى أبعد من مداها الطبيعي، ولنأخذ مثالاً على ذلك: لو افترضنا أن الشارع الشيعي في المنطقة الشرقية طالب ببرلمان منتخب (وقد طالب بذلك فعلاً)، فأي ضير لأهل السنة وفي بقية مناطق المملكة في ذلك إذا ما تحقق هذا المطلب لكافة أبناء الشعب؟ الشيعة لا يمثلون أكثر من ١٠٪ من كافة الشعب السعودي، ولو افترضنا أنهم سيمثلون أنفسهم في ذلك البرلمان على أساس طائفي، فأي تأثير سيكون لهذه الفئة القليلة على هذا البرلمان؟ ولكن من ناحية أخرى أي فائدة سيجنيها المجتمع السعودي من وجود تمثيل شعبي يقوم بمهمة الدفاع عن حقوق المواطنين ويساهم في درء المفاسد ومحاسبة المسؤولين بدلاًَ من إطلاق أيديهم بدون محاسبة؟ وما الذي يضير الحكومة من تمثيل شعبي منتخب إذا كانت تلك الحكومة تحب لشعبها التطوير والتقدم؟ بل إن النهوض بالشعب للمشاركة في الحياة السياسية هو من مهام الدولة الواعية والتي تسير على خطى التنمية البشرية الحقيقية.
وعلى مثله فقس بقية الشعارات وبقية المطالب المرفوعة في القطيف أو في غيرها من المناطق والتي أُريد لها أن تختفي خلف ملصقات التهم الجاهزة، والتي حَجبت رؤيتَها مشاعر الخيانة والعمالة، وتوسعت الهوة بين أبناء الوطن الواحد وأُدخل المجتمع في دائرة المهاترات التي لم تبرد نارها إلى يومنا هذا.
المطالبة بتمثيل شعبي منتخب ومحاكم عادلة معلنة وإلغاء التوقيف التعسفي وإطلاق الحريات وتجريم التمييز الطائفي كلها مطالب تخدم كافة الشعب وليس طائفة بعينها،وكلها تصب في هدف واحد هو السير نحو دولة الشعب ودولة القانون،وهو مطلب الجميع وليس مطلب طائفة دون أخرى.لم يكن في تلك المطالب ما يزعزع أمن البلاد ولم يكن في تلك الشعارات ما يستدعي أن نتهم من يرفعها ويرفع صوته بها هنا أو هناك بأنه مدفوع بأيادٍ خارجية وعميل يهدف الخراب والفساد للبلاد!
الشعب السعودي أحوج ما يكون اليوم لأن يعيش التقارب بين أبنائه وبحاجة ماسة إلى التأمل والتروي وعدم الاندفاع في تصديق التلفيقات عن أي مكون من مكونات مجتمعه، والنظر إلى الأمور بهدوء أكثر، بعيداً عن النزعة الطائفية أو القبلية والتي تذهب بالأمور إلى غير حقيقتها وتسير بالأحداث في اتجاه لا يصب في صالح الوطن على الإطلاق.
وما لم يستوعب أي شعب أن المطلب الحق لا هوية له ولا انتماء فلن يتمكن من أن يخطو خطوة واحدة نحو التنمية والتغيير.والإلتفات إلى شخوص أي قضية يضيع قيمتها ويخفي الحقيقة وراء غبار النعرات والطائفيات.وفي المقابل متى ما استطاع أي مجتمع أن ينظر إلى القيم بغض النظر عن الأشخاص كان أقرب إلى التطوير وتحقيق العدالة.
لقد نجحت وزارة الداخلية في السعودية في أن تقصي كل الساعين نحو التطوير السياسي ومن جميع الطوائف والإنتماءات بأن شدت انتباه الناس إلى شخوصهم وألصقت بهم التهم، ولم تناقش تلك المطالب أو تسمح لأحد أن يقوم بالحديث عنها أصلاً .لقد تمكنت من محاربة الأشخاص و تجييش الرأي العام في محاربتهم، لتحارب بالنتيجة أصل الفكرة والموضوع ويذوب المطلب في دوامة الهياج المستعر تجاه الخائنين.
كل الأحداث القريبة والبعيدة أثبتت أن وزارة الداخلية في السعودية تعمل على سلب الشعب حق الكلمة والذي يعني بمؤداه سلب قدرته على تمثيل نفسه ومن ثم سلبه القدرة على محاسبة المسؤول،فلماذا لا نستنتج في أجواء كهذه بأن النظام لا يريد أن يُحاسب بدلاً من أن نصدق أن هناك من يريد الفتنة والخراب ومن أبناء هذا الوطن ناسين ومتناسين كل تلك الحقائق؟
لا بد لأي مجتمع يعيش الاختلاف فيما بين مكوناته أن يتعامل على أساس إنساني وحسب لا على أساس طائفي أو قبلي أو عشائري، ذلك لأن الطائفية نار تلتهم مشاريع التنمية والتطوير وتضعف من إرادة الشعب وتجعله مشغولاً بأخطاء بعضه البعض، متحيناً لفرصة الانتقام والتنكيل،وإذا كان الشعب كل الشعب يريد فعلاً أن يطور نفسه وأن يحقق دولة القانون والنظام،فلن يتحقق ذلك في أجواء التخوين وتصديق الإفتراءات، إنه يتحقق فقط إذا اجتمعت كلمة الشعب على مطلب واحد..
إن من يطالب بدولة القانون والدستور إنما يطالب بصورة عملية بأن تتم محاسبة كل خائن، والذين يرفعون أعناقهم بالهتاف في ساحات القطيف يقولون تعالوا لنحارب كل الخونة من أي طائفة كان وإلى أي حزب أو قبيل انتمى بإرادة الشعب، وإرادة الشعب لا تكون إلا تحت قبة البرلمان.